مع اقتراب موعد الحوار الوطني المرتقب، تعود إلى الواجهة آمال قديمة ظلت مؤجلة، وتطلعات شعبية متجددة نحو بناء توافق وطني صادق يعيد رسم خارطة الطريق السياسية في موريتانيا. وفي هذا الظرف الحرج، لا تبدو الحاجة إلى الحوار مجرد خيار سياسي محض ، بل ضرورة وطنية تفرضها تعقيدات المرحلة، وتقتضيها المصلحة العليا للبلد. وقد عبّر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني منذ البداية عن حرصه على أن لا يكون هذا الحوار تكراراً لمواسم سابقة من المجاملة والمراوغة، بل لحظة تأسيسية حقيقية يُفضي فيها النقاش إلى ما يُقدّم البلد ويُحسّن أحوال المواطنين.
ولذلك، فإن الأمل يظل معقوداً – وبقوة – على أن تقتني الطبقة السياسية هذه الفرصة النادرة، وألا تضيعها في دوائر الاتهام والتخوين أو في معارك جانبية تستنزف الوقت والجهد. المطلوب اليوم من كل أطياف المشهد السياسي قبل أي وقت مضى أن ترتفع إلى مستوى التحديات، وأن تدرك أن اللحظة تستحق التوقف لا التوتر، والإنصات لا الصخب، والتفكير في الوطن لا في الحسابات الحزبية الضيقة والمصالح الانية الضيقة. فالحوار لا يمكن أن يؤدي ثماره إلا إذا تم التعاطي معه بوصفه مسؤولية جماعية لا مناسبة للظهور الإعلامي أو تسجيل النقاط.
الأخطر من ضياع الحوار هو أن يتحول إلى نقاش عقيم حول القشور، بينما تتراكم القضايا الجوهرية دون معالجة: من إصلاح العدالة، إلى تعزيز الحريات، إلى مراجعة السياسات الاقتصادية، وتكريس الإنصاف في توزيع الثروة، والتصدي للهشاشة الاجتماعية، وترسيخ دولة القانون والمؤسسات. ومن هنا، فإن النجاح في الحوار لا يُقاس فقط بعدد المشاركين أو حجم التغطية، بل بمدى التطرق إلى هذه المسائل الجوهرية، ومدى صدق النيات في معالجتها من جذورها.
لقد عبر الرئيس بوضوح عن رغبته في حوار لا يُقصي أحداً، وحريص على مخرجاته، ومتعلّق بما يمكن أن يسفر عنه من توافقات تُسهم في تحصين الاستقرار ودفع التنمية. وهذا وحده كافٍ لتقديم مؤشرات جدية على أن الدولة منفتحة، ومستعدة للتفاعل البناء. لكن وحده الوعي الجمعي للفاعلين السياسيين هو ما سيحسم إن كنا أمام فرصة تأسيس أو لحظة ضياع.
المرحلة دقيقة، والتاريخ لا يرحم أولئك الذين يُضيعون الفرص، خصوصاً عندما تكون كل الظروف مهيأة لإنجاحها. وعلى القوى السياسية أن تدرك أن واجبها في هذه اللحظة لا يقتصر على الحضور أو الخطابة، بل يقتضي المساهمة الجادة في البناء، والاتفاق على الأولويات، وتجنب إثارة الملفات الهامشية التي غالباً ما تُستخدم لإرباك المسارات الوطنية الكبرى.
و في هذا الاطار اكرر ثم اكرر أنه على المعارضة السياسية الموريتانية أن تدرك أنها شريكًا أساسيًا في أي عملية إصلاح جادة. ان بتاريخها الطويل في الدفاع عن الحريات والديمقراطية، يجعلها مطالبة اليوم اكثر من أي وقت مضى بالمساهمة الإيجابية في هذا المسار، ليس من باب التنازل أو المسايرة، بل من منطلق المسؤولية الوطنية التي تقتضي تغليب المصلحة العليا على المكاسب السياسية الآنية.
وحين تقرر المعارضة أن تكون طرفًا فاعلًا في هذا الحوار، فإنها تسهم في صناعة مستقبل البلاد، وتُبرهن أنها حريصة على الوطن لا على تسجيل النقاط الحزبية. وقد آن الأوان لأن تنأى بنفسها عن الحسابات الضيقة، وأن تتجاوز خلافات اللحظة، لتكون في مستوى تطلعات الشعب الذي ينتظر منها أن تكون صوت العقل، لا صدى الانقسام. فحضورها القوي والجاد هو ما يمنح الحوار المصداقية اللازمة، ويُشعر المواطن بأن ما يجري ليس ترتيبًا من طرف واحد، بل مشروعًا وطنيًا جامعًا.
لقد سئم المواطن من الحوارات التي تبدأ بمهرجانات كرنفالية وتنتهي في الأدراج. ما يريده اليوم هو فعل سياسي جاد يعكس وعيًا حقيقيًا بمشاكله، وتعاملاً ناضجًا مع واقعه، ومخرجات تنعكس مباشرة على حياته اليومية بما ينفعه.
ومع ذلك، يظل الأمل قائماً، لأن إرادة التغيير موجودة، والقيادة العليا الحالية عبّرت عن نية واضحة في الدفع باتجاه الإصلاح، والنخبة السياسية لا تزال قادرة – إذا شاءت – على إنقاذ الموقف. ويبقى الأمل معقوداً على أن يشكل هذا الحوار لحظة يقظة وطنية، نغادر فيها متاهة الشك، ونضع فيها لبنات مشروع وطني جامع، يخرج بالبلد من مناخ التوجس إلى أفق الاستقرار والازدهار.